جمــال سليمــان.. مجرد كارثة فنية بسيطة!

ملامح وحضور طاغٍ، عقلية متطوّرة وفكر ناضج ، أداء متقن ، براعة في الحديث والإنصات ، رؤية ثاقبة للفن والحياة والأحداث اليومية المتنوعة، هكذا باختصار أستطيع تعريفه والتمهيد لما سأكتبه عنه

إنه (جمال سليمان) خريج المعهد العالي للفنون المسرحية، الفنان والمثقف المبدع والذي تألق اسمه منذ سنوات واصبح يشكل مع قلة قلية من النجوم حالة استثنائية في الدراما التلفزيونية

تابعناه في الكثير من الأعمال (ذكريات الزمن القادم ، التغريبة الفلسطينية ، عبدالرحمن الداخل ) وأخيراً في (حدائق الشيطان) آخر أعماله وأكثرها تقدما وإثارة، حيث تمكن من التحليق خارج السرب ، واستحق في نظر الكثير من المتابعين نجم الدراما الرمضانية بلا منازع ، وهو في شخصية (مندور أبو الدهب) لم يكن ممثلاً عابراً ، كان مجرد كارثة فنية بسيطة!

هذا المبدع الذي استطاع أن يدمج المقبلات الشامية بالكشري والملوخية ليقدم لنا طبقاً متوازناً متناغماً بكل مهارة وتمكن.

هذا الطاقة الفنية الهائلة ، هذا المغامر الجريء الذي فاجأنا بأدائه المميزة وحضوره الساحر ، وقدراته الخارقة في تجسيد شخصية (مندور ابو الدهب) الطاغية الصعيدي المتسلط، هذا المتمكن الذي لفت الأنظار واستطاع بذكائه وصفاء موهبته أن يثبت جدارته وأن يقطف ثمرة جهد طويل وخبرة متراكمة من الصبر والإصرار والعمل المتواصل..

كان أدائه في (التغريبة الفلسطينية) كالسحر ، وكنت أظنه لن يتجاوز هذه التجربة الخارقة إلا بعد سنوات ، حيث أدى شخصية المناضل الفلسطيني (أبو صالح) بحرفنة وإتقان وقدمها بكل أبعادها وتفاصيلها الجسدية والروحية .. ابتداءً من اللهجة وانتهاءً بالنفسية والمزاج وبقية الملامح الداخلية، كان أدائه يتصاعد تدريجياً حتى وصل القمّة واستوى عليها وأعلن أنه لم ولن يتنازل عنها بسهولة، وكنت أتابعه مؤيداً ومعجباً ومقتنعاً ، إلا نني كنت على قلق ...

كنت أتساءل : ماذا بعد التغريبة الفلسطينية ؟ تُرى هل يتجه للإعمال البدوية أم سيعود للأعمال المحلية ويكرر نفس الأجواء بنفس التقنيات ، أم أنه سيلجأ للفصحى وينبش في التاريخ بحثاً عن شخصية تتلاءم مع طموحاته ، لكنه فاجأني واتجه إلى (مصر) ، اقتحم الأعمال المصرية بنجومها وتاريخها وجمهورها المتعالي، لم يأت أليها كعابر سبيل ، ولم يمر بها مرور السلام .. لكنه انقض عليها كفارس عنيد لا يرضى بغير البطولة، وهذا ما حدث ، استولى على دور البطل وحقق نصراً هو أقرب إلى الثورة والإنقلاب!

في حدائق الشيطان كان اختيار جمال سليمان لشخصية الرجل الصعيدي تصرفاً في غاية الذكاء والحكمة والحرفنة، فلقد أدرك أنه لو اختار شخصية مصرية (مدنية) كرجل أعمال مثلاً أو اختار دور عاشق قاهري أو رجل اسكندراني لما كان له أن يحقق النجاح الذي يطمح إليه ، ذلك لأن اللهجة (المصرية) الخالصة ستكون عقبة كبيرة بالنسبة له ، وستُحدث له الكثير من التشويش والارتباك ، حيث سيشغله إتقان اللهجة عن إتقان أبعاد وتفاصيل الشخصية وسيتراجع أداءه للدور أو أنه سيخرج بأقل الخسائر، لذلك ربما اختار دور الصعيدي فاللهجة الصعيدية أقل تعقيداً وأبسط في التعامل معها وأكثر اندماجاً مع اللهجات العربية الأخرى.. تضاريسها أقل وعورة ومخارج ألفاظها أقل حدّه وأكثر مرونة ..

وهكذا .. وكأن جمال سليمان قد أحب اللهجة الصعيدية وشعر معها بتوافق وألفة حتى قبل أن يفكر باقتحامها وتجسديها فنياً وعندما قرأ سيناريو (حدائق الشيطان) لم يتردد كثيراً في الموافقة عليه ( رغم إعلانه الصريح أنه لم يعمل تحت ضغط نفسي وقلق أكثر من عمله في حدائق الشيطان) إلا أنه حقق نجاحاً وحضوراً باهراً .. ، مما يؤكد أن الموهبة والذكاء والتطوّر هي أهم أسلحة الفنان وأكثرها تأثيراً وفائدة ..



هذا فيما يخص جمال سليمان(الممثل) أما فيما يخص جمال سليمان (الإنسان) فلا شك أنه لا يختلف كثيراً إن لم يكن أكثر تألقاً وأعمق فكراً وأعلى قيمة وأقدر على انتزاع الفتنة والجاذبية ، وهذا ما أثبته للجميع في لقاءه الأخير مع (هاله سرحان) على روتنا، تابعته بتركز.. كان محاطاً بست (ستّات) مختلفات شكلاً وفكراً ونوايا!

وبحضور عدد كبير من الجمهور الذي حضر اللقاء مباشرة ، وكان يتابع ويتفاعل ويقاطع بالتصفيق والصراخ ،

رأيت (جمال سليمان) الإنسان والفنان والمفكر في حالة اندماج وتوافق تام ، كان يستقبل الأسئلة ويجيب عليها بأسلوب المثقف الجاد ، كلماته تتدفق بانسيابية وعمق ولا تدع فرصة للمقاطعة أو الاعتراض ، تحدّث عن حقوق المرأة وعن الفن والدراما وعن التاريخ والسياسة والمجتمع وعن قضايا الشرق والغرب بكل وعي وجرأة ، مؤكداً للجميع أن الفنان ليس مجرد أداة للتسلية والترفيه وتخدير المشاهدين ، ليس مجرد مهرج ساذج لا يعي ولا يدرك ما يحيط به من قضايا وتناقضات ، كان يتلقى الأسئلة بثقة ويجيب عليها بحماس وعمق حتى أن هالة سرحان وإيناس الدغيدي وبقية الستات التزمن الصمت _على غير عادتهن_ واكتفين بالاستماع والاستمتاع بحديث وآراء وكلمات هذا المبدع العبقري .. الذي ما إن ينهي حديثه في مسألة حتى يقابله الجمهور بموجة من التصفيق والصراخ والإعجاب ، معلناً ولاءه واقتناعه وتوافقه مع كل ماسمعه بأذنه ورآه بعينه ووعاه بقلبه..:

(أنا أحب أبي ولكن هذا لا يعني أنني لا أختلف معه)!

(التاريخ انتهى ومات ، ولا يجب أن نستعيده إلا لنأخذ منه العبر والدروس ، والعبر تأتينا من أخطاء التاريخ وهزائمه أكثر مما تأتينا من نجاحاته وانتصاراته)!!

(لا يجب أن تستهين المرأة بدورها المعقد والصعب في بيتها ، إن تربية الأولاد ورعاية الزوج وإدراة شؤون الأسرة والبيت هي أمانة ثقيلة يجب أن تتفرغ لها المرأة إن كانت تريد النجاح لحياتها)

هذه الآراء لا يمكن أن تخرج إلا من عقلية تفيض وعياً وإدراكاً وعبقرية..

إنه (جمال سليمان) بشخصيته الهادئة .. بملامحه التي تناولها الشيب وأضفى عليها شيئاً من الهيبة والأصالة .. بضحكته الطفولية الساحرة .. بفكره الواضح والجريء، هو باختصار نموذج مشرف لما يجب أن يكون عليه الفنان من التزام ومسؤولية وقدرة على الانخراط في قضايا مجتمعه كمصدر مهم من مصادر الوعي والرقي والبناء..